تتعدَد الأسباب والموت واحد، فمهما إختلفت المشاكل والضغوطات غالبا ما تكون المأساة هي ذاتها ، الإنتحار ظاهرة إجتماعيَة تضرب العالم بشكل عام والمجتمع التونسي بشكل خاص ، أسئلة كثيرة تتبادر إلى ذهنك ما أن تسمع أنَ أحدهم وضع حدَا لحياته بطريقة بشعة وخالية من الرأفة والإنسانية ، أهمَها ما الذي يدفع بشاب أو شابة في العشرين إلى وضع حد لحياته بطريقة قاسية و لاشعوريَة ؟ كيف يصبح ألم الموت حرقا أو شنقا …مرغوبا فيه أكثر من الحياة ؟ ألهذه الدرجة فقدنا شعورنا بقداسة الروح التي إستأمننا لله عليها ؟ ألهذه الدرجة أصبحت الحياة تساوي الموت ؟ أفكار متداخلة وأسئلة لا تنتهي تفرضها علينا المآسي التي تتواتر على مسمعنا ومرآنا بشكل يومي وهذا ما يدعونا إلى التساؤل والوقوف أمام الأسباب التي يمكن أن تكون من بين العوامل الرَئيسيَة للرغبة في الإنتحار ؟
بحسب ما رصده المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية سنة 2016 تم تسجيل ما يقارب 43 حالة إنتحار في شهر واحد ، ويعتبر هذا العدد كبيرا والأكثر خطورة من ذلك هو أنَ الضحايا ينتمون إلى كافة الشرائح العمرية فحتَى الأطفال كان لهم نصيب من هذه المأساة حيث تم رصد 5 حالات إنتحار للاطفال، وترتفع النَسبة بشكل ملحوظ عند الفئة الشبابيَة أي الذين تتراوح أعمارهم بين 26 و35 سنة وهي الفئة التي تظفر بحصَة الأسد وتحتل الصَدارة من حيث عدد حالات ومحاولات الانتحار وذلك وفق نفس المصدر المذكور .
وفي نفس السياق يؤكَد أطباء الأمراض العصبيَة و النفسية و حتَى خبراء علم الاجتماع أنَ ضعف الروابط الاجتماعية وتحديدا الأسرية هي التي تزيد من إمكانية الإقدام على الإنتحار فحسب دراسة إجتماعية أجريت في الغرض يعد تدني القيم الأخلاقية والدينيَة في المجتمع وتغيّر طبيعة الروابط الاجتماعية (التي طغى عليها الجانب المادي وحب المصلحة)، و تلوث البيئة الأسريَة والإجتماعيَة من الأسباب المولَدة لشباب محبط وغير متوازن نفسيَا وعلى عكس الإعتقاد السائد بأن الفقر هو الدافع الوحيد للإنتحار ، فإنَ الحقائق تدحض ذلك فعدد كبير من المراهقين والأطفال الذين أقدموا على الإنتحار كانوا ينتمون إلى عائلات مرفهة ومرتاحة ماديا ولكن تعاني من تفكك أسري وبرود واضح في العلاقات فيجد الطفل والمراهق نفسه في دائرة إكتئاب دائم مليئة بالضغط والشعور بالضياع النَاتج عن الفراغ العاطفي والإستقلالية المفرطة التي وضعه والداه فيها بسبب إنشغالهم الدائم عنه .
ولكنَ هذه الحقائق لا تقصي الفقر من وضعه في قفص الإتهام أيضا و لعلَ خير مثال على ذلك حادثة “محمد البوعزيزي ” التي أشعلت شرارة الثورات في تونس وفي العالم العربي حيث كان الفقر والعيش في وضعية إجتماعية صعبة إضافة إلى الشعور بالمهانة والتهميش من الأسباب الضالعة في حدوث واقعة الإنتحار حرقا ،ويرى أطباء علم النفس والإجتماع أنَ هذه المشاكل والظروف من شأنها أن تتسبّب في ظهور إضطرابات نفسية خطيرة تؤدي إلى الرغبة في الموت والانتحار ، خاصَة وأنَ أغلب الأشخاص الذين يقدمون على هذه المأساة كانوا يعانون من حالات إكتئاب عميقة ومعاناة نفسية شديدة أغلبها ناتجة عن إنسداد الأفق أمام الشباب والشعور بخيبة أمل في الحياة ،إنهيار وتبخَر الآمال بسبب تراكم المشاكل المادية والعائلية والاجتماعية وهذا ما ينجر عنه شعور رهيب باليأس والوحدة فتغلق أبواب الأمل وتنمو مشاعر الرغبة في الموت والرحيل عن الحياة التي تكون في نظرهم قاتمة ولا تستحق أن تعاش.
ومع كل حادثة إنتحار تنتهي حياة لم تبدأ بعد وتذبل الزهور قبل أن تتفتح تاركة وراءها قلوب تتألم وتتخبَط بين الشعور بالذنب والندم في نفس الوقت ، ويقف المشاهد البريء في حيرة من أمره قائلا لنفسه : كم جميل لو كنًا في مجتمع أفضل ؟